الرضا أعظم العبادات القلبية
الرضا أعظم العبادات القلبية
الرّضا عن الله بوابةٌ لرضا الله عن عبده
إنّ من فضل الله تعالى على عباده أنّه جعل لهم سبلاً كثيرة لعبادته، فشرع لهم أبواباً عديدةً للتّعبّد ونيل الأجور وتكفير السيئات ورفعة الدّرجات،
وهذه العبادات بعضها عباداتٌ ظاهرةٌ كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ، وبعضها عباداتٌ قلبيّةٌ يغفل عنها كثيرٌ من النّاس، مع أنّه ربما تكون عبادة القلب أعظم أجراً عند الله تعالى،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ).
فهذا الرّجل لم يصنع خيراً قطّ، لكنّ الله غفر له ذنبه بالخوف الّذي كان في قلبه.
1- الرّضا خُلق الأنبياء
يقول ابن القيّم رحمه الله: “الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ عُيُونِ الْمُشْتَاقِينَ”.
فلذلك إذا أمعنت النّظر في سير الأنبياء والصّالحين لن تجدهم إلّا راضين عن الله وعن أقدار الله، لن تجد نبيّاً يتسخّط على أمر الله، بل كلّهم يسارع في طلب رضا ربّه؛ فهذا موسى عليه السلام يسرع السّير إلى الله طلباً ورغبةً في رضاه: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
وكذلك سليمان عليه السلام كان يسأل ربّه في دعائه الرّضا عن عمله وحاله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النّمل: 19].
وهذا زكريا عليه السلام يدعو ربّه أن يرزقه ولداً رضيّاً: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5-6].
وهذا حال إبراهيم وزوجته حين أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يترك زوجه هاجر وثمرة فؤاده إسماعيل في وادٍ غير ذي زرعٍ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: “لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ، خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ، وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ، فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى اللَّهِ، قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ”.
وابنه إسماعيل مدحه الله سبحانه بأنّه كان رضيّاً: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
ولقد كان سيّد الخلق نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم أرضى النّاس عن ربّه وعمّا قسم الله له، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً، فَقَالَ: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا).
فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتسخّط لأنّه لا يجد ما ينام عليه أو يأكله، بل كان أرضى النّاس.
2- ارضَ عن الله يرضى الله عنك
إنّ من أهمّ أنواع الرّضا أن تكون راضياً عن ربّك جل جلاله؛ فلا تردّ أمره، ولا تأتي نهيه، بل تكون مسلّماً فيما جاءك من عنده، وترضى بما أمرك به رضاءً كاملاً، فإذا أردت أن يرضى الله عنك فارضَ أنت عنه أوّلاً بالطّاعة والعبادة؛ فإن فعلت ذلك فقد رضي الله عنك، فالرّضا عن الله بوابةٌ لرضا الله عن عبده، قال الله عز وجل في وصف المتّقين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التّوبة: 100].
والرّضا عن الله سببٌ لدخول
فمن رضي بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّاً وجبت له الجنّة،
عَنْ أَبِي سَلَّامٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي مَسْجِدِ حِمْصَ، فَقَالُوا: هَذَا خَادِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَتَدَاوَلُهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ الرِّجَالُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وفي الجنّة يحلّ الله رضوانه على أهله وعباده أهل الرّضا في الدّنيا؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا).
فيا أيّها المباركون هل بعد هذا النّعيم نعيمٌ؟! وهل بعد هذا الجزاء العظيم جزاءٌ أفضل منه؟!
3- الرّضا عن أقدار الله
من أهمّ أنواع الرّضا: الرّضا بما قدّره الله عليه أو قسمه لك، فلا تتسخّط من تقدير الله ولا تعترض على تدبيره ولا تكثر الشّكاية والنّياحة، ولا تشكو الله إلى خلقه، فهذا ليس من خلق المؤمن الصّابر المحتسب الّذي يرجو جنان الله تعالى،
ومن أعظم ما يعينك على الرّضا والتّسليم :
أن تعلم أنّه لا أحد يملك لك من الله نفعاً ولا ضرّاً، بل كلّ ما في الكون تقدير الله وإرادته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ).
إي والله، لا قلم يكتب بعد هذا الكلام، ولا صحيفة تبدي موعظةً أشدّ من هذه.
ومن المعين على الرّضا: القناعة بما قسم الله، فقد أخبرنا الصّادق المصدوق عن مالك الدّنيا بأسرها فقال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
فارضَ أخي القارئ بما قدّر الله لك أو عليك كما رضي السّابقون الصّالحون:
فَالْمُحِبُّ رَاضٍ عَنْ حَبِيبِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَقَدْ كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه اسْتُسْقِيَ بَطْنُهُ، فَبَقِيَ مُلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ، وَقَدْ نُقِبَ لَهُ فِي سَرِيرِهِ مَوْضِعٌ لِحَاجَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّخِّيرُ، فَجَعَلَ يَبْكِي لِمَا رَأَى مِنْ حَالِهِ، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: لِمَ تَبْكِي؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الْفَظِيعَةِ، فَقَالَ: لَا تَبْكِ، فَإِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ، وَاكْتُمْ عَلَيَّ حَتَّى أَمُوتَ، إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَزُورُنِي فَآنَسُ بِهَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَسْمَعُ تَسْلِيمَهَا.
وَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ -وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ- جَعَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَ لَهُمْ، فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ، فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ، فَعَرَفَنِي، فَقُلْتُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو لِلنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ، فَلَوْ دَعَوْتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاهُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: “ذَنْبٌ أَذْنَبْتُهُ، أَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ لِشَيْءٍ قَضَاءُ اللَّهِ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ”.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: “لَوْ قُرِضَ لَحْمِي بِالْمَقَارِيضِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ”.
عَنْ أَبِي سَلَّامٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ فِي مَسْجِدِ حِمْصَ، فَقَالُوا: هَذَا خَادِمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَتَدَاوَلُهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ الرِّجَالُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَقُولُ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وفي الجنّة يحلّ الله رضوانه على أهله وعباده أهل الرّضا في الدّنيا؛ لأنّ الجزاء من جنس العمل، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا).
فيا أيّها المباركون هل بعد هذا النّعيم نعيمٌ؟! وهل بعد هذا الجزاء العظيم جزاءٌ أفضل منه؟!
3– الرّضا عن أقدار الله
من أهمّ أنواع الرّضا: الرّضا بما قدّره الله عليه أو قسمه لك، فلا تتسخّط من تقدير الله ولا تعترض على تدبيره ولا تكثر الشّكاية والنّياحة، ولا تشكو الله إلى خلقه، فهذا ليس من خلق المؤمن الصّابر المحتسب الّذي يرجو جنان الله تعالى،
ومن أعظم ما يعينك على الرّضا والتّسليم :
أن تعلم أنّه لا أحد يملك لك من الله نفعاً ولا ضرّاً، بل كلّ ما في الكون تقدير الله وإرادته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ).
إي والله، لا قلم يكتب بعد هذا الكلام، ولا صحيفة تبدي موعظةً أشدّ من هذه.
ومن المعين على الرّضا: القناعة بما قسم الله، فقد أخبرنا الصّادق المصدوق عن مالك الدّنيا بأسرها فقال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
فارضَ أخي القارئ بما قدّر الله لك أو عليك كما رضي السّابقون الصّالحون:
فَالْمُحِبُّ رَاضٍ عَنْ حَبِيبِهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ، وَقَدْ كَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنه اسْتُسْقِيَ بَطْنُهُ، فَبَقِيَ مُلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، لَا يَقُومُ وَلَا يَقْعُدُ، وَقَدْ نُقِبَ لَهُ فِي سَرِيرِهِ مَوْضِعٌ لِحَاجَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّخِّيرُ، فَجَعَلَ يَبْكِي لِمَا رَأَى مِنْ حَالِهِ، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: لِمَ تَبْكِي؟ فَقَالَ: لِأَنِّي أَرَاكَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ الْفَظِيعَةِ، فَقَالَ: لَا تَبْكِ، فَإِنَّ أَحَبَّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَكَ بِهِ، وَاكْتُمْ عَلَيَّ حَتَّى أَمُوتَ، إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَزُورُنِي فَآنَسُ بِهَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيَّ فَأَسْمَعُ تَسْلِيمَهَا.
وَلَمَّا قَدِمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه إِلَى مَكَّةَ -وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ- جَعَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ لِيَدْعُوَ لَهُمْ، فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ، فَتَعَرَّفْتُ إِلَيْهِ، فَعَرَفَنِي، فَقُلْتُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو لِلنَّاسِ فَيُشْفَوْنَ، فَلَوْ دَعَوْتَ لِنَفْسِكَ لَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاهُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ بَصَرِي.
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: “ذَنْبٌ أَذْنَبْتُهُ، أَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، قِيلَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: قُلْتُ لِشَيْءٍ قَضَاءُ اللَّهِ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ، أَوْ لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ”.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: “لَوْ قُرِضَ لَحْمِي بِالْمَقَارِيضِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَقْضِهِ”.